الرئيسية » مقالات » ذاكرة الجراح ومستقبل السلام: جبر الضرر كأداة للسلام في سورية

ذاكرة الجراح ومستقبل السلام: جبر الضرر كأداة للسلام في سورية

مشاركة:

غيث حمّور

 

عندما نتحدث عن العدالة الانتقالية، غالبًا ما ينحصر النقاش في محاسبة المجرمين والجناة، وهو جانب حيوي وأساسي لأي عملية انتقالية ناجحة. لكن، العدالة الانتقالية ليست مجرد محاكمات وقوانين تُسنُّ لملاحقة الجناة، بل هي عملية شاملة ومعقدة تهدف إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتضميد الجراح التي خلفها الصراع، وهنا يبرز الدور الجوهري لمفهوم جبر الضرر.

ما هو جبر الضرر؟

جبر الضرر لا يعني فقط التعويض المالي للضحايا أو أسرهم، بل هو اعتراف علني بما تعرضوا له من معاناة، واستعادة كرامتهم، وضمان عدم تكرار الانتهاكات. إنه يشمل مجموعة واسعة من التدابير التي تهدف إلى معالجة آثار الظلم الماضي، مثل التعويض المالي أو الرمزي، الرعاية الصحية والنفسية، وتقديم ضمانات بعدم تكرار الانتهاكات، إضافة إلى إحياء ذكرى الضحايا وبناء ذاكرة جماعية تعترف بما حدث.

جبر الضرر في السياق السوري

في سوريا، حيث عانى ملايين السوريين من الاعتقال التعسفي، التعذيب، القتل، التهجير، والاختفاء القسري، يُصبح جبر الضرر مسألة مصيرية لبناء أي مستقبل مشترك. لا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي دون إعطاء الأولوية لجبر الضرر على عدة مستويات، ربما يكون أهمها الاعتراف بمعاناة الضحايا، فالاعتراف العلني بالجرائم والانتهاكات ليس مجرد خطوة رمزية؛ بل هو رسالة بأن المجتمع والدولة يقدران معاناة الضحايا، ويعملان على تضميد الجراح. يحتاج السوريون إلى سرد تاريخهم الحقيقي، لا أن يُطمس أو يُحرَّف لتجميل صورة الجناة.

يتبع ذلك التعويض المالي، مئات الآلاف من العائلات فقدت معيلها الرئيسي، وأصبحت تعيش في فقر مدقع. توفير تعويض مالي، سواء بشكل مباشر أو من خلال برامج دعم اجتماعي، هو ضرورة لتحسين ظروفهم المعيشية. كذلك، يمكن بناء نُصب تذكارية أو إنشاء أيام وطنية لتخليد ذكرى الضحايا.

من القضايا المهمة هي إعادة الحقوق المدنية، كثير من السوريين حُرموا من حقوقهم الأساسية، مثل الجنسية، الملكية، أو العمل. إعادة هذه الحقوق وإلغاء القوانين الجائرة هي خطوة حاسمة.

فضلاً عن التأهيل النفسي والاجتماعي، لا يُمكن التغاضي عن الأثر النفسي للجرائم المرتكبة. يجب أن تُوفَّر خدمات علاج نفسي شامل للضحايا، خاصة للأطفال والنساء الذين تعرضوا لانتهاكات جسيمة.

جبر الضرر يتطلب أيضاً محاسبة المؤسسات التي ساهمت في القمع، مثل أجهزة الأمن، وضمان إعادة هيكلتها لتكون خادمة للشعب، لا أداة لقمعه.

دور المجتمع المدني في جبر الضرر

يلعب المجتمع المدني دورًا جوهريًا في عملية جبر الضرر، حيث يُعتبر الجسر بين الضحايا والمؤسسات الرسمية. في السياق السوري، تحتاج منظمات المجتمع المدني إلى تعزيز جهودها في مجالات متعددة، مثل:

  • الدعم النفسي والاجتماعي: تقديم خدمات متخصصة للضحايا، خاصة الأطفال والنساء، لمساعدتهم على التعامل مع الصدمات التي تعرضوا لها.
  • توثيق الانتهاكات: توثيق الجرائم التي وقعت خلال الصراع وجمع الشهادات بشكل دقيق، بهدف استخدامها في محاكمات مستقبلية أو كجزء من السجل الوطني للتاريخ.
  • تنظيم الفعاليات المجتمعية: إطلاق مبادرات تعزز المصالحة بين المجتمعات المتضررة من الصراع، وتخلق فضاءات للحوار والتواصل.

المجتمع المدني يُمكنه أن يكون قوة دافعة لتحقيق العدالة الانتقالية بشكل عادل وشامل، خاصة إذا تم دعمه من قبل المنظمات الدولية المعنية.

التعليم كأداة لتضميد الجراح وبناء الذاكرة الجماعية

لا يمكن بناء مستقبل مستقر لسوريا دون الاستثمار في التعليم كأداة لإعادة بناء الوعي الوطني وترميم النسيج المجتمعي. يجب إعادة صياغة المناهج الدراسية لتشمل دروسًا تُظهر أهمية التسامح والعدالة وحقوق الإنسان. كذلك، يمكن للمدارس والجامعات أن تُنظم أنشطة لإحياء ذكرى الضحايا، مما يساعد الأجيال الجديدة على فهم الماضي والعمل على تجنب تكراره. التعليم أيضًا يُعد وسيلة لترسيخ قيم التعايش والاحترام المتبادل بين مختلف مكونات المجتمع السوري، مما يجعل منه حجر الزاوية في أي عملية مصالحة وطنية.

ضمانات عدم التكرار كشرط أساسي لجبر الضرر

جبر الضرر لا يمكن أن يكون مكتملًا دون وجود ضمانات واضحة تمنع تكرار الجرائم والانتهاكات التي عانى منها السوريون. من أهم هذه الضمانات إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية لتصبح مؤسسات خادمة للشعب، وليست أدوات للقمع. كذلك، يجب تعزيز سيادة القانون من خلال وضع تشريعات صارمة تحمي حقوق الأفراد وتضمن محاسبة أي انتهاك. إلى جانب ذلك، يمكن إنشاء آليات رقابة شعبية على أداء الدولة لضمان الشفافية والمساءلة. نشر الوعي بحقوق الإنسان وثقافة التسامح من خلال برامج توعية وطنية سيكون أيضًا جزءًا لا يتجزأ من هذه الجهود لضمان مستقبل أكثر عدلًا وأمانًا.

الإعلام كأداة لتعزيز العدالة الانتقالية

الإعلام المستقل هو أداة قوية لتعزيز العدالة الانتقالية، حيث يمكن أن يُسهم في كشف الحقيقة ونشر روايات الضحايا، مما يساعد على بناء وعي مجتمعي حول أهمية جبر الضرر. الإعلام يمكنه أيضًا أن يضغط على الأطراف السياسية لتبني سياسات تدعم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، يلعب الإعلام دورًا هامًا في توثيق الجرائم والانتهاكات، مما يوفر أدلة يمكن استخدامها في المحاكمات المستقبلية. في السياق السوري، الإعلام الحر سيكون حاسمًا لضمان الشفافية في المرحلة الانتقالية وإبراز معاناة الضحايا ومطالبهم.

التحديات التي تواجه جبر الضرر في سوريا

رغم أهمية جبر الضرر، تواجه سوريا تحديات كبيرة قد تعيق تحقيقه. من أبرز هذه التحديات انعدام الثقة بين مكونات المجتمع نتيجة الانقسامات التي عمّقتها سنوات الصراع. كذلك، يواجه السوريون صعوبة في بناء مؤسسات قوية وقادرة على تنفيذ برامج جبر الضرر بسبب ضعف البنية التحتية وغياب الدولة في بعض المناطق. التدخلات الدولية والإقليمية تُضيف تعقيدًا آخر، حيث تسعى بعض الأطراف إلى استغلال الصراع لتحقيق مكاسبها الخاصة، مما يهدد أي جهود للعدالة الانتقالية. كما أن التكلفة الاقتصادية الباهظة لإعادة الإعمار قد تُصعّب تخصيص الموارد لجبر الضرر، وهو ما يتطلب تخطيطًا دقيقًا ودعمًا دوليًا.

إشراك النساء والشباب في عملية جبر الضرر

في أي عملية جبر ضرر، لا يمكن إغفال أهمية دور النساء والشباب، خاصة أنهم كانوا من أكثر الفئات تضررًا خلال الصراع. النساء اللاتي فقدن أزواجهن أو تعرضن لانتهاكات جسيمة يحتجن إلى برامج خاصة لتمكينهن اقتصاديًا واجتماعيًا، مما يساعدهن على استعادة حياتهن الطبيعية. الشباب، بدورهم، يمثلون أملًا كبيرًا في إعادة بناء سوريا، ويمكن إشراكهم في مشاريع وطنية تهدف إلى إعادة الإعمار وتنمية البلاد. تمكين هذه الفئات سيُعزز من التماسك المجتمعي ويُساهم في تحقيق مصالحة حقيقية.

الرؤية المستقبلية لسوريا بعد جبر الضرر

إذا نجحت سوريا في تنفيذ عملية جبر ضرر شاملة وعادلة، فإنها ستخطو خطوة كبيرة نحو بناء مجتمع قائم على المساواة والكرامة الإنسانية. الرؤية المستقبلية لسوريا يجب أن تتضمن تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز الوحدة الوطنية بين مختلف مكونات الشعب. العدالة الانتقالية ليست مجرد وسيلة لإنهاء الصراع، بل هي الطريق لبناء سوريا جديدة، تستعيد مكانتها كدولة مستقلة وحرة، وتؤسس لنظام ديمقراطي يضمن الحقوق والكرامة لجميع مواطنيها. هذا المستقبل يتطلب إرادة جماعية من السوريين وتعاونًا صادقًا من المجتمع الدولي لدعم هذه العملية.

نحو مستقبل يضمن العدالة

العدالة الانتقالية، بما فيها جبر الضرر، ليست عملية سهلة أو سريعة. هي مسار طويل يحتاج إلى إرادة جماعية، ودعم دولي، وآليات مبتكرة تناسب التعقيد السوري. بدون تضميد جراح الماضي، ستظل سوريا رهينة دوامة العنف والانتقام.

على السوريين أن يتكاتفوا لضمان أن تكون العدالة الانتقالية شاملة، تراعي الضحية كفرد وكجزء من مجتمع أكبر. جبر الضرر ليس ترفًا، بل هو حجر الزاوية في بناء سوريا جديدة، خالية من القمع والانتقام.

رسالة للسوريين

سقوط النظام هو فرصة لتجاوز الماضي وبناء مستقبل يليق بتضحيات الشعب السوري. التحديات كبيرة، لكن الإرادة الشعبية الصادقة قادرة على تحويل هذه اللحظة التاريخية إلى نقطة انطلاق نحو الحرية والكرامة. تحتاج سوريا اليوم إلى قيادة واعية ومسؤولة، تعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وتضمن تحقيق العدالة والمساواة للجميع.

مشاركة: